تتحدث في الهاتف فوقع ما لم يكن في الحسبان








لم يكن قد رآها في حياته أبداً وهي لا تعرفه وهو لا يعرفها، وبين مكان وجوده ومكان وجودها مسافات بعيدة، فهي تسكن في شرق هذه الأرض وهو في غربها.

وشاءت له الأقدار أن يتحدث معها على الهاتف لأول مرة، لقد كان كلامها عذب وجميل وكانت في منتهى الرقة والأدب وكان في صوتها سحر عجيب.

لقد أحس حينها بإحساس غريب لم يشعر به من قبل، أحس وكأنه يعرفها منذ زمن، شعر بأنها قريبة منه جداً رغم بعد المسافة التي تفصل جسده عن جسدها وبات تلك الليلة ساهرٌ حتى الصباح يشده الشوق تارة لرؤية وجهها الذي لم يره بعد وتارة أخرى يسأل نفسه هل هي يا ترى قد أحست أيضاً بما أحس؟ هل خفق قلبها وهل كانت سعيدة؟.

وتكررت المكالمات وكان شوقه لرؤيتها يزداد في كل مرة وأحس أنه في أمس الحاجة لوجودها معه.

كان يعيش قبل أن يتحدث معها في حيرة ويأس وكان يشعر بالوحدة والضياع، كان بحاجة ماسة لامرأة يعشقها وتعشقه وتشاطره أفراحه وأحزانه، كان بحاجة لامرأة يهمس في أذنها كلمات الحب التي تختلج في صدره، وهكذا فجأة وبعد أن سمع صوتها وتحدث معها أحس بأن ذلك الحلم قد بدأ يتحقق وشعر بداخله بتحول غريب قد قلب كيانه.

لقد تسلل إلى قلبه شعاع أمل جعله يحب الحياة ويتمسك بها بعد أن كره العيش فيها، أصبح يقدس وجوده ويخاف على نفسه وعليها أيضاً، وصار كل شيء في نظره جميل حتى الأشياء القبيحة منها، أجل لقد بدأ كل شيء في حياته يسير إلى الأفضل.

بدأ يشعر وكأنه شاب لا يتجاوز عمره العشرين رغم أن عمره الحقيقي قد قارب الخمسين، فهو رغم حياته الطويلة تلك لم يحظى يوماً بحب حقيقي ولم يكن يعرف من قبل حقيقة ذلك السر العجيب الذي يجمع بين قلوب المحبين إلا عندما أحس بالحب يدخل قلبه.

لم يكن يدري كيف أنه أحبها دون أن يراها، ولم يكن يتخيّل يوماً بأن صوت امرأة سيُفجّر في داخله كل تلك العواطف المكنونة ويسحر عقله وقلبه ويغيّر حياته، وهل يُعقل أن يحب رجل امرأة لمجرد سماع صوتها فقط؟

كان لا يصدق أبداً بأن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، حتى مر هو نفسه بمثل تلك التجربة.

لقد تعرف في حياته على بعض النساء لكن قلبه لم يخفق لأي منهن ولم يشعر بأن صوت إحداهن قد أثر في نفسه كما فعل صوتها الحنون الذي سحر قلبه منذ الكلمة الأولى.

بالرغم من أنه كان يثق بأنها تحبه كما يحبها تُطِل أحياناً من رأسه أفكاراً مزعجة تكاد تقتل ما في داخله من لحظات جميلة وأوقات حلوة وتدفعه أحياناً لكي يتساءل:

ترى هل سيتغيّر في نفسها شيء عندما تراه؟.

هل أن هذا الحلم الجميل الذي يعيشه معها الآن وهي بعيدة عنه سيزول حين يلقاها وتلقاه؟ وهل أن كل ما كان بينهما من أحاديث جميلة ولحظات حلوة سيطويها الزمان لتبقى ذكريات مؤلمة تحز في نفسه؟.

ويعود ويقول لنفسه ليخفف عنها ما يؤلمها: لا يا نفس لا تصدقي مثل تلك الأفكار فهي ليست إلا لحظات يأس وتشاؤم يصورها لك الشيطان لكي ينزع منك تلك اللحظات الحلوة التي تشعرين بها.

وهكذا مرت الأيام إلى أن شاء له القدر أن يسافر إلى مكان وجود تلك المرأة التي أحب والتي لم يرها بعد، ولكن حصل له فجأة ما لم يكن في الحسبان، فبينما هو سائر في الطريق إلى منزل من يحب وقع نظره على امرأة كانت تسير في تلك الطريق، وما إن رأى تلك المرأة حتى خفق قلبه وسحره البريق الذي كان ينبعث من عينيها وأحس بجاذب قوي يشده نحوها فوقف لبرهة ينظر إليها وهي كذلك لكنها أكملت سيرها في الحال.

لقد أحس من نظراتها بأنها هي أيضاً قد بادلته نفس الإحساس والشعور وأخذ يفكر بأمر هذه المرأة، وخطر في ذهنه أن يعدو خلفها ويتحدث معها لكي يتعرف عليها ومن ثم يصارحها بشعوره المفاجأ نحوها، وصحا من ذهوله بعد لحظات وتذكّر تلك المرأة التي أحبها وقطع المسافات من أجل أن يراها وأخذ يخاطب نفسه قائلاً:

يا إلهي ماذا جرى لي؟ هل فقدت صوابي؟ ولماذا أصبح قلبي هكذا مُعلّق في حب هذه المرأة وتلك؟ وهل يُعقل أن أحب امرأتان في نفس الوقت؟ واحدة من خلال سماع صوتها والتحدث معها والأخرى من خلال رؤيتها والنظر إليها. لا... لاشك أني فقدت صوابي.

لقد صار في حيرة من أمره ولم يعد يدري ما يفعل، فلم يجد أمامه غير الاستعانة بالله والتوسل إليه لكي يساعده وينوّر بصيرته، وفجأة وجد نفسه يسير إلى منزل المرأة التي جاء من أجلها ولما وصل إلى باب المنزل شعر حينها بشيء من الارتباك والخوف لكنه تمالك نفسه ثم قرع الباب، وما هي إلا لحظات حتى فُتِح الباب، وذُهل من هول المفاجأة التي رأى ويا لغرابة ما رأى.

لقد وجد أمامه فجأة نفس المرأة التي شاهدها في الطريق والتي جذبه سحر عيناها حين رآها لأول مرة، ولم يدم ذهوله طويلاً فقد أدرك في الحال أن هذه المرأة هي ذاتها تلك المرأة التي أحبها وجاء لكي يراها.

أجل لقد كانت هي ذاتها نفس المرأة التي أحبها في الحالتين وفهم حينذاك سر خفقان قلبه وانجذابه نحوها حين رآها في الطريق وتأكد من صدق مشاعره وإخلاصه لها وأنه لم يفقد صوابه كما خُيِّل إليه.

لقد كانت دهشتها لا تقل عن دهشته وذهولها أشد من ذهوله وبقيا هكذا معاً للحظات واقفين أمام الباب ينظر كل منهما للآخر في حيرة وذهول، وما إن صحيا مما هما فيه حتى بادرها بالكلام وقال لها: أنا ...، وأنت .... أليس كذلك؟

فأجابت وفي صوتها حلاوة اللقاء وفي عينيها بريق السعادة: أجل أنا ... هيا ادخل.

ودخل المنزل ثم جلسا معاً ينظر كل منهما للآخر دون أن يتفوه أحدهما بأية كلمة وتمنيا لو أنهما يقضيان الوقت كله هكذا دون كلام، ويا لها من لحظات رقص قلبه فيها فرحاً وسأل نفسه: هل أنني ما زلت أحلم أم أن ما أراه الآن هو واقع وحقيقة؟

لقد كانت العيون في تلك اللحظات هي التي تتكلم، فتارة تُعبّر عن حبها وأشواقها وعظيم فرحتها بذلك اللقاء، وتارة تهيم في غياهب المجهول غارقة في أحلام المستقبل، ومع ذلك أحب أن يُعبّر لها بالكلام أيضاً عما يختلج في صدره اتجاهها من شوق ومحبة فقال لها:

هل تدرين أنك أنت المرأة الوحيدة التي أحببتها دون أن أراها ومن ثم عشقتها بعد أن رأيتها. ودُهِش حين سمعها تقول:

أما أنا فقد أحببتك قبل أن أتحدث إليك، وعشقتك قبل أن أراك، فأنت كنت تعيش في جوارحي منذ زمن، وقد رسمت لك صورة في مخيّلتي، وتجسدت تلك الصورة في داخلي حتى صارت مع مرور الأيام وكأنها واقع أمام نظري، فلذلك كنت واثقة من أنك ستأتي يوما ما وأراك وإحساسي لا يخدعني أبداً فأهلاً بك يا رفيق عمري.

ما أجمل ما سمع، لقد أثّر كلامها في نفسه تأثير السحر وأحس بنشوة الحياة تجري في عروقه فهو لم يكن يحلم أبداً بأن يسمع منها أكثر مما سمع.

لقد عبّرَ كل منهما للآخر عن مدى حبه واشتياقه وتعاهدا على الإخلاص والوفاء وأن يبقيا معاً إلى آخر العمر، ثم تزوجا بعد ذلك وعاشا معاً أجمل أيام حياتهما.






Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...